ربما يخطر في ذهن بعض المتنورين علميا، ماهي أسباب عدم النهضة العلمية في مختلف المؤسسات وهل فعلا لايوجد من هو قادر على قيادة المؤسسات نحو الابداع والدينامكية الفاعلة؟
وفي الواقع أن البلاد تعج بالقدرات والكفاءات العلمية التي تمتلك الفكر التنموي والابداعي وتمتلك الشفافية والموضوعية والعدالة.
لكن المشكلة العميقة تتركز في الشخصنة وتبادل المنافع... مما تسبب في تحبيد الكفاءات العلمية الرصينة التي لاتجد سبلا نافعة في التعامل مع هذا النوع من التيه الفكري.
سيما وان فرص النجاة بأقل الخسائر تكون ضئيلة في مسارات تشوبها المطبات السلبية .... والتحييد المتعمد في اغلب الاحيان او وربما النأي بالنفس من الدخول بمعتركات المنافسة غير العادلة احيانا اخرى.
وايضا في واقع الحال نجد ان هناك هوة كبيرة بين أصحاب المنافع الخاصة ممن يبحثون عن شركاء داعمين من خارج الاطر القانونية أو وفقا لاستراتيجيات دعم المنافع المتبادل وأصحاب الفكر البناء.
ونجد الأكاديمي الذي حرق نفسه وناضل ليكون أكاديميا حقيقيا وجاهد نفسه كي تكون منتظمة وفق معايير وقيم وثوابت لا تراجع عنها نجد انه لا مكان له في لغة (المنافع) حتى وان كان الأفضل في رفع مستوى المؤسسة لأنه ليس قادرا على أن يلبس ذلك الثوب (التماهي الشكلي) والانقياد السلبي نحو تحقيق منافع الأشخاص لا المؤسسات.
وبالإضافة لما سبق ثمة عوامل ذات طبيعة هيكلية تحيط بمؤسساتنا وتغذي المنافع والتماهي معا والتحييد الطوعي أو الإجباري ، ففي التماهي توجد أزمة البطالة منتشرة ؛ وهو ما يدفع أي شخص يعمل في وظيفته إلى التمسك بها أو بالأحرى القتال عليها؛ لأن سوق العمل أصبحت ضيقة كثقب الإبرة، ومن أجل ذلك لا مانع إذا تنازلت قليلا واتخذت مظهرا مخالفا لما في داخل أفراد المؤسسة في سبيل البقاء. وتدفع الثقافة السائدة في مجتمعاتنا - التي تعلي من شأن السلطة النفعية وتعطيها كل المزايا وتحقر ما دونها - ودفع الأفراد إلى التخلي عن الثوابت القيمية التي تحملهم على قول الحق، أو انتقاد الأوضاع التي لا تعجبهم والتماهي مع الوضع الجاري أو الحياد الطوعي.
فضلا عن أن طغيان الحداثة على مجتمعنا ساهم في تأصيل ثقافة التماهي ؛ إذ تعرضت تلك المعاني إلى تحولات معرفية من قبل الناس لتسكينها في الجانب الإيجابي لا السلبي؛ فقد ظهرت معان مترادفة وقيم مستحدثة يتداولها الموظفون في المؤسسات، مثل: (لتكن دبلوماسيا في العمل، أو المجاملة خير طريق لنيل الرضا، أو الصراحة ليست جيدة في كل الأوقات، أو الصراحة المتجملة)... الخ ...أو سلوك التحييد الجبري أو الاستبعاد المتعمد لعدم تطابق المبادئ أو لعدم التماشي مع اساليب العمل....
كما ظهر ما يسمى بالتماهي المحمود خلاف لما يمتلكه المحيدون ، وهو ببساطة تطبيق لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة؛ أي لا مانع أن تكون كذابا خاصة إذا كان ذلك سيكون لحل مشكلة، وتلك المعاني الجديدة التي حولت المستقبح إلى مستحسن يمكن القول بأنها وافدة وليست نابعة من واقع ثقافة مجتمعنا وديننا الذي شن حربا كبيرة على تلك الثقافات، و أكثر ما خشي على المسلمين هو الخشية من التماهي؛ لأنه العدو الذي لا تراه ولا تعمل له حسابا كون الظاهر غير الحقيقة.
ولعل هذا ما يتضح في سورة البقرة حينما قال الله تعالى(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ.يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون )(البقرة/9).
ولا يهون أحد من التماهي مقابل التحييد؛ فله من التداعيات ما يوجع ظهر بيئة المؤسسات وأعمالها؛ فالتماهي والتحييد هو الضريبة التي يدفع بها الفساد الفضيلة؛ فالموظف المتماهي لا يهمه استشراء المحسوبية والفساد داخل مؤسسته، ما دام الأمر لن يمس مصلحته، وهنا فهو يصمت عن أي تجاوزات، وقد يشارك في التغطية عليها إذا لزم الأمر.
الأمر الأخطر هو أن التماهي قد يؤدي إلى الكذب، ومن ثم اهتزاز المؤسسات، ولعل المثال المهم الذي اهتز له الاقتصاد العالمي كان جراء محاولة القائمين على شركات أمريكية كبرى تقديم أرقام وهمية عن أرباح خيالية ساهمت في رفع أسعار أسهم هذه الشركات في الأسواق المالية بدون مبررات اقتصادية فعلية بهدف تضليل المستثمرين، ودفعهم إلى الإقبال على شراء أسهم هذه الشركات بصورة كبيرة؛ وهو ما ساهم في رفع قيمتها بصورة جنونية وبالتالي يستفيد مديرو هذه الشركات نتيجة تضخيم مكافآتهم السنوية، في الوقت الذي لا يبالون فيه بالخسائر التي تلحق بحمَلة الأسهم من جراء إفلاس الشركات أو هبوط أسعار الأسهم في البورصة.
وساعتها اعتبر خبراء أمريكيون أن "أمرا خطيرا اعتلى مؤسسات الأعمال الأمريكية، فأفسدها وجعلها تنحرف عن أهدافها الاقتصادية ويجب تقويمها.
يعني تمكن المتماهون وابتعاد الصادقون والكفاءات الحقيقية.
ويجب القول أن الإنسان لن يستطيع أن يتقدم دونما أن يعرف سلبيات وإيجابيات أسلافه، حتى يستطيع عمل قيمة مضافة في عمله إذا رغب في التميز لكن كيف وان التراكم يعتمد على الاخطاء والأخطاء جاءت نتيجة الاختيار الخاطر وهنا تتعقد التركيات بتجاه السلبية لا الايجابية.....خلاف لما يحدث في العالم من اعتماد التحكم المعرفي الرصين في بناء المؤسسات.
وهناك أمر آخر يبدو جليا في مؤسساتنا من جراء التحيبد هو أنّ البعض يتحايل على ضعف كفاءته بحرص مبالغ فيه على أناقته الفكرية أو بإظهار حبه للاسس الفكري غير القادر على التطور والتحول الدينامكي ، وبالتالي العمل هنا لأجل الشكل لا المضمون الذي غاب عن الاداء في مؤسساتنا، نتيجة تحديد من يمتلك الأسس العلمية في عجلة التطور.
ولأن العمل الشكلي هو النتاج الحقيقي لتبادل المنافع وتحييد الكفاءات تظهر مبادئ الدعم النفعي داخل كل مؤسسة إدارية؛ لأن منطق المنفعة هو الذي يحكم الموقف وليس الكفاءة، وتتحول تلك العناصر إلى لوبي قوي يلعب دورا مهما في قرارات تطور أو عدم تطور المؤسسة ، وهذه اشد الوسائل التي تؤدي إلى تعطيل المؤسسات وعدم تقدم المجتمع.
ولأن المنافع وصاحبها غير منظور؛ لذا فإن مكافحته تتطلب من مؤسساتنا التوقف مليا أمام تطبيق قواعد الشفافية والمحاسبة والعدالة والديمقراطية في اتخاذ القرار ؛ فما ظهر تحيبد للكفاءات إلا في بيئة افتقدت لهذه القواعد ولا ضير أن تكون المؤسسات الأكاديمية هي المبادر الأول كونها تحتوي القدرة والقواعد المناسبة لتبني مشروع مكافحة التحييد ووضع حلول جذرية تتلاءم مع هذه الظاهرة التي تعد أكثر الظواهر فتكا في بناء أسس التقدم المؤسسي، من خلال توفير البيئة المناسبة لمختلف الكفاءات وإعطاء الفرص للجميع بتقديم أفضل مايخدم تلك المؤسسة.
تعليقات
إرسال تعليق